بسم الله الرحمن الرحيم
﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾ [المائدة: 55]
صدق الله العلي العظيم
انطلاقاً من الآية المباركة نتحدث عن دولة علي بن أبي طالب وحقوق الإنسان، فهنا محوران لحديثنا:
فلسفة حقوق الإنسان.
حقوق الإنسان في دولة أمير المؤمنين علي عليه السلام .
المحور الأول: فلسفة حقوق الإنسان
في عام 1948م أصدرت الأمم المتحدة لائحة بحقوق الإنسان، وفي عام 1966م وافقت معظم الدول على لائحة منظومة حقوق الإنسان، فعندما نتحدث عن فلسفة حقوق الإنسان في كتب القانون فإنها تعتمد على أربعة أعمدة وركائز: الموضوعات، الشكل المنطقي، الأساس القانوني، العقد الاجتماعي.
الركيزة الأولى: الموضوعات
المجالات التي يثبت للإنسان حقوق فيها: التعليم، الصحة، الملكية، تقرير المصير.
ففي التعليم لكل إنسان فرصة التعليم والوصول إلى أعلى مراتب التخصص الذي يهواه، وفي الصحة لكل مواطن توفير مرافق الصحة والوقاية والعلاج اللازم لأي مرض أو عرض يطرأ عليه، وفي الملكية فمن حق كل إنسان فرصة عمل وتملك لوسائل النقل والتواصل، وأن يتملك بقعة من الأرض يأوي إليها، وتقرير المصير فمن حق كل إنسان أن يقرر مصيره وموقعه الذي من خلاله يتنفس ويباشر عمله.
الركيزة الثانية: الشكل المنطقي
الصياغة المنطقية لحقوق الإنسان تتألف من ثلاثة بنود: الحرية، الواجب، السلطة.
فللإنسان حريته الدينية، حريته الإعلامية، حريته الفكرية، وحريته الاقتصادية، إلا أن هذا العنصر ممتزج ومندمج بالعنصر الثاني ألا وهو عنصر الواجب، فكما أن للإنسان حريات في عدة مجالات فعليه واجبات ومسؤوليات بعدد مجالات الحرية، وقد ورد عن الإمام أمير المؤمنين علي الذي نظَّر لحقوق الإنسان حيث قال: ”إن الحقوق أوسع الأشياء في التواصف وأضيقها عند التناصف، لا تجري لأحد إلا جرت عليه ولا تجري على أحد إلا وجرت له“ أي ليس هناك حرية أخذ الحقوق وحيازتها إلا وهي مندمجة بمسؤولية وواجب تجاه الأطراف الأخرى.
العنصر الثالث السلطة ووظيفتها حماية الحريات، وتوفير الحقوق، والموازنة بين المصالح المتزاحمة، لنفترض أن إنساناً أراد أن ينطلق من حريته الاقتصادية وأن يؤسس له مصانع ضخمة فهل له الحق أن يمارس حريته الاقتصادية وأن يمارس حقه في الملكية والإنتاج حتى على حساب سلامة البيئة ونقائها من الأمراض والأوبئة؟! ليس له ذلك، هنا تتدخل السلطة في الموازنة بين الأمرين، بين أن يمتلك الإنسان ممارسة حريته الاقتصادية وحقه في الملكية، وبين حق المجتمع في أن يعيش بيئة نقية خالية من الأدخنة السامة وخالية من الأبخرة المضرة، فهنا يكون للسلطة دور الموازنة بين المصالح المتزاحمة.
الركيزة الثالثة: الأساس القانوني لحقوق الإنسان
الأساس القانوني لحقوق الإنسان يقوم على ركنين: الانسجام بين الحقوق والطبيعة البشرية، وبذل الجهد.
فالركن الأول أن الحقوق التي يسنها القانون لابد أن تكون حقوق منسجمة مع طبيعة الإنسان سواء كانت حقوق فكرية أو حقوق إعلامية أو حقوق اقتصادية، أما الحق الذي لا ينسجم مع كرامة الإنسان كحق التعري مثلاً، أو الحق الذي لا ينسجم مع مستوى أهلية الإنسان فإنه ليس من الموضوعية تشريعه، فلابد أن تكون للحقوق نحو من الانسجام مع طبيعة الإنسان.
الركن الثاني: بذل الجهد، الإنسان له حق الثروة لكن لا يمكن أن يصل إلى حقه إلا بالعمل والسعي وبذل الجهد، القرآن الكريم عندما يتعرض لقصة مريم ابنة عمران يقول: ﴿وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا﴾ [مريم: 25] أي لك حق في الثروة لكن هذا الحق يتوقف على السعي وبذل الجهد.
الركيزة الرابعة: العقد الاجتماعي
كما ذكر الفيلسوف روسو بأن العقد الاجتماعي دعامة ضرورية لتنظير الحقوق وتطبيق وتجسيد الحقوق، فمالم يكن هناك تباني اجتماعي عام، ومالم يكن هناك تعاقد بين جميع طبقات المجتمع التجار والعمال والذكور والإناث على رعاية الحقوق ووضعها في مواضعها لا يمكن أن تصل الحقوق إلى أهدافها، فتنظير الحقوق وتطبيقها منوط بالعقد الاجتماعي وهو التباني على تجسيد هذه الحقوق والتعاون مع السلطة التشريعية والقضائية والتنفيذية في تنفيذ وتجسيد هذه الحقوق على أتم وجه، قال تبارك وتعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ [المائدة: 2].
المحور الثاني: حقوق الإنسان في دولة الإمام أمير المؤمنين علي
تجلت في دولة الامام علي صياغة حقوق الإنسان بأجمل صورها وأروع مثلها، وذلك من خلال دعامتين وركيزتين أصر عليهما الإمام أمير المؤمنين في دولته المباركة.
الركيزة الأولى: النظام الاقتصادي العادل
لا توجد إيدلوجية تحترم الإنسان مالم يكن لها فلسفة اقتصادية، النظام الاقتصادي هو عصب حركة العالم كله، فلا يمكن لأي جهة أن تطرح مشروعاً يقود البشرية نحو التقدم مالم يكن لها نظام اقتصادي، ومالم يكن لها رؤية اقتصادية، إذن علي بن أبي طالب عندما أسس دولة الإنسان أيضاً وضع رؤية اقتصادية في هذا المجال وذلك من خلال التركيز على قانونين: الموازنة بين روافد الإنتاج وموارد التوزيع.
أي اقتصاد يقوم على هذين الركنين روافد إنتاج وموارد توزيع، وما لم تكن هناك موازنة بين الطرفين فإن الثروة لا يمكن أن تؤتي ثمارها بأن تصل إلى أصحابها وتغطي حاجات المجتمع بأسره.
إذا جئنا للمقارنة في مجال الموازنة بين روافد الإنتاج وموارد التوزيع بين الرؤية العلوية وبين الرؤية الرأسمالية نجد الفرق هو في الفلسفة: هل الإنتاج هدف أم وسيلة؟
في النظام الرأسمالي الذي يسيطر على العالم اليوم الإنتاج هدف، للإنسان هدف أن يربح، للإنسان هدف أن ينتج، للإنسان هدف أن يصل إلى أعلى درجات الربح والثروة، الإنتاج في حد ذاته هدف، بينما بحسب الرؤية العلوية الإنتاج مجرد وسيلة لاستقرار الحياة الاجتماعية المندمجة والممتزجة بالحياة الاقتصادية، ولأجل أن الإنتاج مجرد وسيلة إذن دور السلطة التنفيذية هو الموازنة بين روافد الإنتاج وموارد التوزيع بحيث لا يغلب أحدهما على الآخر.
لاحظوا مثلاً عندنا في التشريع الإسلامي كما ورد عن الرسول محمد : ”من أحيا أرضاً مواتاً فهي له“ بإمكانك أنت أيها الإنسان كمواطن أن تخرج إلى الصحراء وتحيي أرضاً شاسعة وتصبح هذه الأرض لك، سواء أحييتها بزراعة أو بناء، هذا إنتاج، لكن هل هذا هدف في حد ذاته أم أنه مجرد وسيلة لاستقرار الحياة الاجتماعية؟ هو مجرد وسيلة، لذلك لابد من الموازنة بين رافد الإنتاج ومورد التوزيع، لو كان مثلاً إنساناً يمتلك شركات كبرى واستطاع من خلال شركاته أن يستثمر أرض تبلغ خمس مئة كيلو متر إلا أنه ليس له الحق في أن تعطى له بذريعة حقه في التملك، أو في ذريعة حريته الاقتصادية؛ لأنه لابد من الموازنة بين الإنتاج وهو استثمار الأرض وإحياؤها وبين مورد التوزيع؛ وهو أن ينال كل مواطن حقه في تملك أرض، وحقه في تحصيل المأوى والسكن، وحقه في تحصيل فرصة إنتاج أخرى أيضاً.
لذلك نرى الإمام أمير المؤمنين علي في عهده لمالك الأشتر يصر على هذه الموازنة عندما يقول: هذا ما عهد به علي بن أبي طالب أمير المؤمنين إلى واليه مالك الأشتر النخعي عندما ولاه مصر قال: جباية خراجها واستصلاح أهلها وعمارة بلادها وجهاد عدوها.
هذه المفردات الأربع تلخص دور السلطة في الموازنة بين روافد الإنتاج وموارد التوزيع:
فالمفردة الأولى «جباية خراجها» أي تجبى خراج الأرض لتوزع على المواطنين.
والمفردة الثانية «واستصلاح أرضها» هو إنتاج، استصلاح الأرض هو إخراج خيراتها كما قال تعالى: ﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ [هود: 61] ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾ [الملك: 15]
المفردة الثالثة «عمارة بلادها» لكي يحصل هذا الإعمار لابد من حالة الموازنة، عمارة البلاد التي تتولاها السلطة تأتي عن طريق الموازنة بين جباية خراجها واستصلاح أرضها، بالموازنة بين هذين الأمرين تكون النتيجة المفردة الثالثة عمارة البلاد.
المفردة الرابعة «جهاد عدوها» أي الحماية، السلطة تحمي الشركات، وتحمي رؤوس الأموال، وتحمي فرص العمل، وتحمي حقوق المواطن، أي أن تحمي كل موارد وكل روافد الإنتاج من أجل بناء اقتصاد قوي عادل.
القانون الثاني: ففي الاقتصاد هناك فرق بين الإنتاج والتداول، الإنتاج هو تطوير السلعة وتطوير المادة بحيث تلبي حاجة المستهلك، تخترع جهاز تواصل، تخترع جهاز للتنظيف، المهم متى ما طورت المادة بحيث تلبي حاجة المستهلك هو يسمى إنتاج.
أما التداول فهو نقل السلعة من موضع إلى آخر غاية ما في الأمر قد يكون النقل أفقياً كإخراج المادة من الأرض إخراج النفط والكنوز من الأرض من أجل تطويرها وبلورتها، هذا أيضاً تداول لكنه تداول أفقي، وهناك تداول آخر في عرض هذا التداول الأفقي وهو تداول عمودي؛ وهو إخراج المادة من الأرض من أجل تطويرها وصياغتها، وهناك تداول أفقي وهو نقل هذه المادة المطورة أو هذه المادة المنتجة من المصنع إلى يد المستهلك.
هل أن التداول مغاير للإنتاج؟
بحسب المصطلح الاقتصادي التداول شيء والإنتاج شيء آخر، لكن في رؤية علي في عهده لمالك الأشتر اعتبر التداول شعبة من شعب الإنتاج، فمما تميزت به دولته أنه اعتبر التداول شعبة من شعب الإنتاج فلذلك حماه ووفر له ما وفر لروافد الإنتاج من الصلاحيات والحقوق، لاحظوا قوله في عهده لمالك الأشتر: ”واستوصي بالتجار وذوي الصناعات خيراً وأوصي بهم خيرا فإنهم التجار مواد المنافع وأسباب المرافق وجلابها من المباعد والمطارح“.
جعل التجار وذوي الصناعات في عرض واحد، مع أن ذوي الصناعات إنتاج والتجار تداول لكنه جعلهما في عرض واحد ليجعل التداول شعبة من شعب الإنتاج، فالتجار يقومون بدورين كما يقوموا بدور توزيع وتداول جلابها من المباعد والمطارح فهم يقومون بدور إنتاج مواد المنافع وأسباب المرافق.
إذن هناك رؤية علوية اقتصادية بني عليها نظام دولة أمير المؤمنين علي ، وهذه هي الركيزة الأولى لدولة الإنسان في دولة علي بن أبي طالب.
الركيزة الثانية: المواطنة
المواطنة هي علاقة عضوية بين الفرد وبين الدولة، فالفرد له حقوق وعليه واجبات، وفي هذه الممازجة بين الحقوق والواجبات تتحقق صورة المواطنة الصالحة، وقد تميزت دولة أمير المؤمنين علي في مجال تجسيد المواطنة بأجمل صورها من خلال مبدأ المساواة في عدة مجالات:
المجال الأول: المساواة في المواطنة القانونية
لاحظوا قوله في عهده لمالك الأشتر عندما يقول ”وأشعر قلبك الرحمة للرعية والرفق بهم واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم فإن الناس صنفان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق“ أي أن المواطن في دولة علي قد يكون مسلم وقد لا يكون كذلك، قد يكون متدين بدين وقد لا يكون، نظير لك في الخلق أي كلاهما مواطن، كلاهما يحصل على درجة واحدة في المواطنة القانونية، لا فضل لأحدهما على الآخر.
المجال الثاني: المساواة في العطاء
جاءت امرأة قرشية إلى الإمام علي ومعها خادمها وقالت: يا أبا الحسن إنني امرأة ضاقت بي الدنيا واحتاج إلى العون اصرف لي راتب من بيت مال المسلمين، فأمر الإمام علي بأن يصرف لها راتب وأمر بصرف راتب لخادمها مساوي لراتبها، فاعترضت وقالت: يا أبا الحسن أنا قرشية وهذا خادم لي فكيف يكون له راتب يساوي راتبي! فقال أبو الحسن : ما وجدت في كتاب الله فضلاً لبني إسماعيل على بني إسحاق، كلكم لآدم وآدم من تراب، يقول القرآن الكريم: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾ [الإسراء: 70].
إذن المساواة في العطاء هي مظهر آخر لحقوق المواطنة في دولة الإمام أمير المؤمنين علي .
المجال الثالث: المساواة في احترام دور العبادة
كما أن المساجد محترمة فالكنائس والصوامع محترمة، مر الإمام علي على كنيسة وهو عائد من حرب صفين، فقال له أحد أصحابه: هذا مكان طالما عصي فيه الله. فقال له: مه، قل هذا مكان طالما عبد فيه الله.
فدولة علي تحمي دور العبادة وتحمي رموز العبادة سواء كانت للمسلمين أو لغير المسلمين.
المجال الرابع: المساواة في الراتب التقاعدي
الموظف له راتب تقاعدي حتى في دولة علي بن أبي طالب ، وهناك مساواة في الراتب التقاعدي بلا فرق، دخل الإمام أمير المؤمنين السوق يتفقده رأى رجلاً نصرانياً يتسول وكان الإمام علي يحارب ظاهرة التسول لأنه يبني اقتصاداً عادلاً، فقال ما هذا؟ قالوا: هذا نصرانياً كبر وعجز عن العمل فأصبح يتسول. قال: ويحكم استخدمتوه حتى إذا كبر تركتموه يتكفف الناس! اعطوه من بيت مال المسلمين. مع أنه ليس مسلماً لكنه مواطن.
المجال الخامس: المساواة وعدم الامتياز لأسرة الخليفة أمير المؤمنين على غيره
جاء عقيل وهو أخو الإمام علي من أمه وأبيه يطلب زيادة في الراتب فالإمام علي حكى للناس ما جرى بينه وبين أخيه عقيل، فقال: أيها الناس لقد جاءني أخي عقيل واستماحني صاعاً من بركم ومعه صبيته وقد اصفرت ألوانهم كأنما سودت وجوههم بالعظلم فأحميت له حديدة وأدنيتها منه ففزع منها قلت: ثكلتك الثواكل يا عقيل أتفر من حديدة أوقدها إنسانها للعبه وتجرني إلى نار سجرها جبارها لغضبه! لا امتياز لك على غيرك، الجميع على حد سواء في مستوى العطاء والراتب.
هذه المجالات الخمسة في المساواة التي جسدها علي بن أبي طالب في دولته جسدت حقوق المواطنة في دولة الإنسان في دولة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله وسلامه عليه وهذا ما تحدث عنه ضرار بن ضمرة عندما دخل على معاوية بن أبي سفيان وقال له: صف لي علياً. قال: اعفني. قال: أبيت عليك إلا أن تصفه. قال: إذا أزمعت على ذلك فاسمع، كان والله بعيد المدى شديد القوى، يقول عدلاً ويحكم فصلاً، كان والله غزير الدمعة طويل الفكرة، يحاسب نفسه إذا خلا ويقلب كفيه على ما مضى، كان والله يعظم أهل الدين ويتحبب إلى المساكين، كان فينا كأحدنا يجيبنا إذا سألناه ويدنينا منه إذا أتيناه، لا يطمع القوي في ظلمه ولا ييأس الضعيف من عدله، وكان مع قربه منا وحنوه علينا لا نكلمه هيبة له وإجلالاً فإذا تبسم فعن مثل اللؤلؤ المنظوم، ولقد رأيته ليلة من لياليه ماثلاً في محرابه قابضاً على شيبته يتململ تململ السليم وهو يقول: إليك يا دنيا غري غيري، إلي تطلعت أم إلي تشوفت، لقد بنتك ثلاثاً لا رجعة لي بعدها فعمرك قصير وعيشك حقير وخطرك كبير، آه من قلة الزاد وبعد السفر ووحشة الطريق..
هكذا يعظنا أمير المؤمنين في هذه الليالي وهكذا يذكرنا بالآخرة، وهكذا يقول لنا: وتزودوا فإن خير الزاد التقوى، التفت إلى أهله ومن معه قال لهم: أيها الناس كنت بالأمس صاحبكم واليوم أنا عبرة لكم وغداً مفارقكم فخذوا العبرة والعظة من ذلك، الله الله في الصلاة فإنها عمود دينكم، الله الله في بيت ربكم لا يخلون منكم، الله الله في الأيتام، الله الله في الفقراء، الله الله في صغيركم…. ولم يدع وصية إلا أوصى بها حتى قضى نحبه غريباً شهيداً.
المصدر / موقع شبكة المنير