حين نظمت قصيدتي في سيدتي الزهراء (ع) في سجن أبي غريب/ صدام، خلال مدة سجننا السياسي (١٩٨٣ – ١٩٩١ م ) كانت لدي ولدى أسرتي الحكيمية مواجهة دورية شهرية حيث تأتي عوائلنا لزيارتنا.
يومها خبرني ولدي يسار بأنّ أحد المشايخ الأصدقاء يعقد مجلساً للسيدة الزهراء (ع) هذه الليلة، متحدياً بذلك الظلاميين من مانعي المجالس، فنسخت القصيدة على ورقة سجائر، لعدم وجود ورقة في السجن أكتب عليها قصيدتي، فكتبتها بقلم رصاص مهرب، ثم قلت ليسار: اذهب إلى سماحة الشيخ مباشرة، وقل له يقرأ هذه القصيدة ما أمكنه ذلك في مجلسه الليلة، ولا ينسبها لي: لخطورة كوني من آل الحكيم حيث أرزح ويرزحون بسجون الطاغية بالعشرات، ولأني أيضاً – وأنا قابع في السجن – أثقف إسلامياً من داخل زنازينه المؤمنين خارج السجن عبر تهريب الشعر ليُقرأ في المجالس، ولكون يسار قد هرب قصيدة ممنوعة من بين أعين الحراس والرقباء زمن جمهورية الخوف، وغيرها وغيرها.
ولذلك فقد كانت مخاطرة كبيرة علي وعلى زوجتي وأولادي.
ذهب يسار من سجن أبي غريب إلى النجف الأشرف مباشرة بعد أن استطاع تهريب القصيدة وأعطاها لسماحة الشيخ، وقال له ما طلبت منه قوله له، فقال له الشيخ الجليل: نعم سأفعل إن شاء الله.
وفي المساء حضر يسار المجلس فصعد سماحة الشيخ المنبر وقال:
سأتلو عليكم هذه الليلة المأساوية في هذا المجلس الفاطمي قصيدة حزينة أقدّم لها بقصة.
قال الشيخ : أما القصة فقد جاءني أخي الأستاذ عصر هذا اليوم ، وكان قد أفاق لتوه من حلم غريب، نقله لي قائلا:
كأني رأيت (السيد عبد الهادي) قد جاء إلى مجلسنا وصلى ركعتين وخرج.
فقال الشيخ الخطيب لأخيه الأستاذ:
نعم إنه جاء وصلى وخرج.
فاستغرب الأخ من دعوى أخيه الشيخ!
– نعم ؟ ماذا قلت؟ ماذا؟
كيف جاء عبد الهادي إلى بيتنا؟ وكيف صلى ركعتين وخرج؟ كيف تقول ما قلت وهو يرزح في قفص مظلم في زنزانة من زنازين أبي غريب / صدام؟ كيف؟
فأجابه الشيخ:
نعم جاء وصلى ركعتين وخرج، وستعرف ذلك في المجلس هذه الليلة.
ثم حين حان وقت المجلس بعد الغروب حكى سماحة الشيخ القصة على المنبر، وألقى القصيدة بعدها ابتداءً من القول التالي للإمام علي (ع):
“ألا أيها الموت الذي ليس تاركي*
أرحني فقد أفنيت كلَّ خليلِ
أما القصيدة فهي تدور مدار كلام لأمير المؤمنين (ع) بعد دفن الصديقة الزهراء (ع) كما ورد في (نهج البلاغة ص220) وقد جاء فيه:
“السلام عليك يا رسول الله عني وعن ابنتك النازلة في جوارك والسريعة اللحاق بك، قلَّ يا رسول الله عن صفيتك صبري، ورقَّ عنها تجلّدي … فإنا لله وإنا إليه راجعون، فلقد استرجعت الوديعة وأخذت الرهينة، أما حزني فسرمد، وأما ليلي فمسهد، إلى أن يختار الله لي دارك التي أنت بها مقيم، وستنبئك ابنتك بتظافر أمتك على هضمها، فأحفها السؤال واستخبرها الحال، هذا ولم يطل العهد ولم يخل منك الذكر … “.
أما مفتاح القصيدة فهو
قول الإمام علي (عليه السلام) البيتين التاليين، مؤبناً:
“أَلا أيُّهَا المَوتُ الذَّيْ لَيسَ تَارِكي*
أَرِحْنِي فَقَدْ أَفْنَيْتَ كُلَّ خَليلِ
أَراكَ خَبيراً بالذَّينَ أُحِبُّهُم*
كأنَّكَ تَسْعَى نَحْوَهُمْ بِدليلِ”·
وأنسج على منوال قوله (ع)، مستنطقاً تأبينه للسيدة البتول الزهراء (ع)، وموظفاً بين قوسين كبيرين مفرداته (ع) في رثائها، وكذلك مستعرضاً صفات البتول الزهراء كما رواها المؤرخون فأقول بعد بيتَي الإمام (ع) على نفس وزنه وقافيته ما يلي:
كأنَّكَ جَاثٍ فَوقَ صَدْريَ مُوَكَّلٌ*
بِجَذِّ فُروعِي وَاجْتِثاثِ أُصُولي
تُراقِبُها حَتَّى إِذا ما تَشابكَتْ*
بدَل غُصونِي بَعْدَ طُولِ مُحُولِ
وأزهَرَ عُودٌ واسْتطالَتْ فَسَائِلٌ*
وظَلَّلَتِ القَفْرَ اليَبابَ نَخيلِي
هَوَيْتَ عَلى قَلْبِي تُبَضِّعُ حُبَّهُ*
بِسَيفٍ رَقيقِ الشَّفْرتَينِ صَقيلِ
أَيا مَوتُ ما أَشْجاكَ لاهبُ أَضْلِعي*
وَحِرقَةُ آهاتي وَطولُ ذُهُولي..؟!
خَطَفْتَ حَبيبي “أَحْمداً” ثُمَّ عُدْتَ ليْ*
“لِتَخْتَلِسَ الزَّهْراء” بَعدَ قَليلِ
وَكُنتُ “إِذا ما اشْتقْتُ رؤيةَ أَحمدٍ”
وَتاقتْ إِلى الوصْلِ الحَبيبِ طُلُولي
“أرَتْنيهِ” فِيْ تَبْتيلِها وَخُشُوعِها*
و”أَذْكََرَنيْ تَرْتِيلُهَا بِخَليلِي”
فَضُمَّ أَبا الزَّهْراءِ “بَضْعتكَ” الَّتي*
أَتَتْكَ مَشُوباً غُصْنُها بِذُبولِ
وَ”سَلْهَا” تُجِبْكَ الآهُ عَنْ كُلِ صَرخَةٍ*
مُكبَّلةٍ أَوْ كُمَّةٍ لِعويلِ
وَألْحِفْ فَكَمْ منْ لاعجٍ بِفُؤادِها*
خَبيءٍ وَكَمْ مِنْ حُرقةٍ وغَليلِ
وَعُدَّ أَبا الزَّهْراءِ أَضْلاعَ صَدْرِها*
وَأرْفِقْ فَمكْسورٌ بِجَنْبِ عَليلِ
وأَمْرِرْ عَلى المَتْنَينِ كَفَّيكَ وَالْتَمِسْ*
مَرَارةَ حِقْدٍ أَسْوَدٍ وذُحُولِ
وَأَطْفِيءْ بِعَيْنيها تَلَهُبَّ جَمْرةٍ*
بِطِيبٍ مِنْ الثَّغْرِ الرَّحِيمِ جَميلِ
عبد الهادي الحكيم
سجن أبي غريب / صدام ١٩٨٩ م



